روائع مختارة | واحة الأسرة | نساء مؤمنات | ابنة أبي بكر.. رضي الله عنهما

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > واحة الأسرة > نساء مؤمنات > ابنة أبي بكر.. رضي الله عنهما


  ابنة أبي بكر.. رضي الله عنهما
     عدد مرات المشاهدة: 3179        عدد مرات الإرسال: 0

(إنها ابنة أبي بكر) يقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم باسماً متهلل الوجه حباً وإعجاباً بعائشة، وهو يرى سرعة بديهتها ورباطة جأشها على حداثة سنها وهي تدافع عن نفسها حتى أثخنت وتغلبت وأفحمت.

بعد أن سمع ما قيل عنها وما قيل لها. وكان من خبر ذلك أن أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كن حزبين، حزب عائشة وفيه حفصة و سودة وصفية في الجانب الجنوبي، وحزب زينب وأم سلمه وفيه أم حبيبة وجويرية وميمونة في الجانب الشمالي.

وكان الأنصار حول بيوتات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كسعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأبي أيوب يكثرون إلطاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالهدايا، وذلك لقرب جوارهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان الناس قد علموا حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة، فكانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة يبتغون بذلك سرور رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان عند أحدهم هدية يريد أن يهديها أخرها حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيت عائشة أرسل هديته إليه عندها.

فاجتمع الحزب الشمالي إلى أم سلمة، وكانت أكبرهن وأكثرهن حظوة عند رسول الله وقلن لها: يا أم سلمة إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريد عائشة، فكلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم الناس فيقول: من أراد أن يهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية فليهدها إليه حيث كان من بيوت نسائه.

فلما وافى اليوم الذي يكون فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند أم سلمة قالت له: يا رسول الله إن صواحبي اجتمعوا إلي فقالوا: إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نحب ما تحب عائشة فمر الناس يهدوا لك حيثما كنت، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولم يرد عليها شيئاً، فلما اجتمع إليها صواحبها سألنها: ما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ما قال لي شيئاً، قلن لها: فكلميه، فلما دار إليها في يومها كلمته أيضاً فلم يقل لها شيئاً، فسألنها:

فقالت: ما قال لي شيئاً، فقلن لها: كلميه حتى يكلمك، فلما دار إليها كلمته للمرة الثالثة، فقال لها: (يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها)، فقالت أم سلمه: أتوب إلى الله من أذاك يا رسول الله.

وعلم صواحبها أنها لم تكن لتراجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك، فأرسلن إلى فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يتوسلن إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأحب الناس عنده.

فكلمنها أن تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: إن أزواجك ينشدنك العدل في بنت ابن أبي قحافة، فمكثت فاطمة أياماً لا تفعل ذلك، حتى جاءتها زينب بنت جحش فكلمتها، فقالت فاطمة: أنا أفعل، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاستأذنت عليه وهو في بيت عائشة مضطجع معها في لحافها، فأذن لها، فقالت: إن نساءك أرسلنني يسألنك العدل في بنت ابن أبي قحافة، فقال صلى الله عليه وسلم: (زينب أرسلتك؟ ).

فقالت فاطمة: زينب وغيرها، فقال: (أهي التي وليت ذلك)، قالت: نعم. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: (أي بُنيَّة، أليس تحبين ما أُحب؟) قالت: بلى يا رسول الله، فقال: (فأحبي هذه)، وأشار لعائشة.

فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعت إلى أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبرتهن بالذي قالت، وبالذي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلن لها: يا بنت رسول الله ما نراك أغنيت عنا من شيء، فارجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقولي له: إن أزواجك ينشدنك العدل في بنت ابن أبي قحافة، فقالت فاطمة: والله لا أكلمه فيها أبداً.

فقال النساء لزينب: اذهبي أنت لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك لقرابتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي ابنة عمته أميمة بنت عبد المطلب ولحظوتها، فهي التي كانت تسامي عائشة عنده..

فجاءت زينب فاستأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مع عائشة في لحافها، على الحال التي دخلت فاطمة عليه وهو بها. فأذن لها فدخلت عليه وهي غضبى، فقالت: يا رسول الله إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة ابن أبي قحافة.

ثم وقعت بعائشة فاستطالت عليها تسبها، وعائشة ساكتة ترقب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقرأ في ملامح وجهه وطرف عينه وقع كلام زينب، حتى رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليها هل تكلم؟

وعرفت أنه لا يكره أن تنتصر، وتدفع عن نفسها، فاستقبلت زينب ترد عليها فلم تلبث أن تغلبت عليها، وأفحمتها حتى يبس ريقها في فمها، فتبسم رسول الله وجعل يقول ووجهه يتهلل: (إنها ابنة أبي بكر)، ومن مثل أبي بكر في وفور عقله، وسعة علمه، وثبات حجته، وقوة شخصيته، وهذه هي ابنته، ومن يشابه أبه فما ظلم.

وها هنا وقفات:

1- نرى المشاعر الجميلة ظاهرة مستعلنة فحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة لم يكن خافياً ولا مُخفى، ولكن ظهر واشتهر حتى علم به الصحابة رضوان الله عليهم، وأصبحت هداياهم تتسقط مواقع حبه.

لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يظهر هذه العاطفة الجميلة لأنها مطلب فطري، وكمال إنساني، واستواء في العواطف والمشاعر ولذا كان الحب في عصر النبوة يتنفس في الهواء الطلق، ثم خلفت خلوف درست فيها معالم هذا الهدي النبوي، فصار ذكر اسم الزوجة، معرّة وإشهار حبها عاراً.

2- أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي ألقيت عليه المهابة وكان في موقع القيادة والقوامة على الأمة كلها يفسح مساحة واسعة في بيوته لحركة المشاعر وانفعالات النفوس، ولذا تكلمت أم سلمة وكررت.

وناشدت زينب وغاضبت وخاصمت، وكل ذلك حراك في المساحة التي أفسحها رسول الله صلى الله عليه وسلم لهن، وقد كان يكفي في منع ذلك - لو أرد - نظرة غاضبة أو كلمة زاجرة، ولكنه لم يكن يعامل بالكبت ولا بالقهر، وإنما بالسماحة واليسر؛ ولذا تظهر المشاعر والانفعالات الوقتية في حينها، ويحتويها رفق الرسول الذي أحب الرفق وأمر به، وبهذه السماحة تشعر الزوجة بكمالها الإنساني، ولا تترسب الانفعالات المكتومة إلى أحقاد ومشاعر سلبية.

3- الواقعية في التعامل مع الخطأ ووضعه في حجمه الطبيعي، فما بدر من زينب من وقيعة وسب لعائشة كان خطأ، وأن يجري أمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في بيت عائشة وتحت لحافها خطأ آخر.

وكان هذا كافياً في إشعال حريق من الغضب والانفعال المضاد لكل من كان في مثل هذا الموقف، ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم وضع ذلك في حجمه الطبيعي، وتفهم دوافعه، وهي الغيرة بين الزوجات والتي دافعها الحقيقي شدة حبهن له صلى الله عليه وآله وسلم، واكتفى بإعطاء المجال لعائشة أن تدفع عن نفسها، ولم يتدخل بما يصعد الموقف أو يوسع دائرة الخطأ أو يوالي تداعياته.

4- لقد كانت مناشدة زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي حملتها فاطمة عليها السلام، وكذا مناشدة زينب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما دخلت عليه (ننشدك الله العدل) .

فهل تأملت أن هذا الكلام يوجه إلى المصطفى الذي جاء بالعدل وقام به، ومن يعدل إذا لم يعدل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهل علم البشرية العدل إلا هو بأبي وأمي.

ثم قارن هذا الموقف بغضب النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن رجلاً قال عن قسمته يوم قسم غنائم حنين: إن هذه لقسمة ما عدل فيها، فاحمر وجهه من الغضب كأنه الصبغ الأحمر، وقال: (فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله) ولما قال له رجل: يا محمد اعدل، قال: (ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل، لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل) .

إن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الموقف مع زوجاته لم يغضب ذاك الغضب وإنما وضع هذه الكلمة في حجمها، وتفهم بواعثها والحامل عليها، فلم يكن من أمهات المؤمنين – وحاشاهن – اتهام له في عدله وعدالته، ولكن حملهن على ذلك الغيرة التي يحركها التنافس على الاستئثار به.

ولذا لم يواجههن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغضب، بل ولا رد عليهن هذه الكلمة ولا جادل فيها؛ لعلمه بأن معناها غير مقصود، وتفهمه لبواعثها وخلفيتها النفسية.

فما أحوجنا إلى تربية أنفسنا على إجراء الكلام على سياقته وتفهم بواعثه ودوافعه، وخاصة في بيوتنا بين الزوج وزوجه حين تبدر بعض فلتات الألسن فتفتح لها محاضر التحقيق، وجلسات الاستجواب، ويكون لها ما بعدها، مع أنها لو أجريت في سياقها مرت وما ضرت.

5- لم يستجب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لطلبهن أن يأمر أصحابه أن يهدوا له حيث كان من بيوته؛ لأنه ليس من المروءة وكمال الأخلاق أن يتعرض الرجل إلى الناس بمثل ذلك؛ لما فيه من التعرض بطلب الهدية.

وهو ما يتعالى عنه مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أما عائشة فلا ذنب لها ولا عتب عليها أن يحبها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي أهل لحبه، وهل أدل على جدارتها بذلك من أن يزكي الله هذا الحب.

فيتنزل وحيه على رسوله الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو معها في لحافها دون سواها؛ ولذا جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بمنأى عن العتاب، وقال لبضعته سيدة نساء العالمين عليها السلام: (أحبي هذه) ، وحق على كل مسلم يحب نبيه أن يحب من أحبها وأمر بحبها.

6- كما أن زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم كن يتحركن في مساحة واسعة أفسحها لهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنهن كن يتورعن أن يتجاوز ذلك إلى ما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقصرت أم سلمة عند ما قال لها: (لا تؤذيني في عائشة) ، وقالت: أتوب إلى الله من أذاك يا رسول الله.

7- بقي أن نعلم أن أمهاتنا أمهات المؤمنين اللاتي كان يجري هذا بينهن بحكم غلبة الطبيعة البشرية كن على غاية النقاء القلبي، فهذه زينب التي جرت منها هذه المخاصمة لعائشة والغيرة البالغة منها تقول عندما سئلت عنها في حادثة الإفك: أحمي سمعي وبصري.

ما علمت عليها إلا خيراً. وهذه عائشة تتحدث عن زينب، فتقول: لم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب، وأتقى لله عز وجل وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تصدق به، ما عدا سَورة من حدة تسرع منها الفيئة. اللهم صل وسلم وبارك على نبيك وحبيبك محمد النبي الصادق الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين.
 
الكاتب: الشيخ علي الطنطاوي

المصدر: موقع د. عبد الوهاب الطريري